الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)
.آخر دولة السلجوقية بخلاط وأرمينية وملكها منهم بنو أيوب. أخبار الإفرنج فيما ملكوه من سواحل الشام وثغوره وكيف تغلبوا عليه وبداية أمرهم في ذلك ومصايره..قد تقدم لنا أول الكتاب الكلام في أنساب هذه الأمة عند ذكر أنساب الأمم وأنهم من ولد يافث بن نوح ثم من ولد ريفات بن كومر بن يافث أخوة الصقالبة والخزر والترك وقال هروشوش أنهم من عصر مابن غومر وأما مواطنهم من بلاد المعمور فإنهم في شمال البحر الرومي من خليج رومة إلى ما وراء النهر غربا وشمالا وكانوا يدينون لليونان والروم بالطاعة عند استفحال أمرهم فلما انقرضت دولة أولئك استقل هؤلاء الإفرنج بملكهم وافترقوا دولا مثل دولة القوط بالأندلس والجلالقة بعدهم وملك اللمانين بالتفخيم من جزيرة إنكلطرة بالبحر المحيط الغربي الشمالي وما يحاذيه ويقابله من المعمور ومثل ملوك إفرنسة وهو عندهم إسم إفرنجة بعينه والجيم ينطقون بها سنا وهم ما وراء خليج رومة غربا إلى الثنايا المفضية إلى جزيرة الأندلس في الجبل المحيط بها من شرقيها وتسمى تلك الثنايا البردت وكانت دولة هؤلاء الإفرنس منهم من أعظم دولهم واستفحل أمرهم بعد الروم وصدرا من دولة الإسلام العربية فسموا إلى ملك بلاد المشرق من ناحيتها وتغلبوا على جزر البحر الرومي في آخر المائة الخامسة وكان ملكهم لذلك العهد بردويل فبعث رجالا من ملوكهم إلى صقلية وملكها من يد المسلمين سنة ثمانين وأربعمائة ثم سموا إلى ملك ما وراء النهر من أفريقية وبلاد الشام والإستيلاء على بيت المقدس وطال ترددهم في ذلك ثم استحثهم وحرضهم عليه فيما يقال خلفاء العبيدين بمصر لما استفحل ملك السلجوقية وانتزعوا الشام من أيديهم وحاصروهم في مصر فيقال أن المستنصر منهم دس إلى الإفرنج بالخروج وتسهيل أمرهم عليه ليحولوا بين السلجوقية وبين مرامهم فتجهز الإفرنج لذلك وجعلوا طريقهم في البر على القسطنطينية ومنعهم ملك الروم من العبور عليه من الخليج حتى شرط عليهم أن يسلموا له إنطاكية لكون المسلمين كانوا أخذوها من مماليكهم فقبلوا شرطه وسهل العبور في خليجه فأجازوا سنة تسعين وأربعمائة في العدد والعدة وانتهوا إلى بلاد قليج أرسلان وجمع للقائهم فهزموه وفر بلاد ابن اليون الأرمني ووصلوا إنطاكية وبها باغيسيان من أمراء السلجوقية فحاصروه بها وخذلوا صاحب حلب ودمشق على صريخه بأن لا يقصوا غير إنطاكية فأسلموه حتى ضاق به الحصار وغدر به بعض الحامية فملك الإفرنج البلاد وهرب باغيسيان فقتل وحمل إليهم رأسه وكان ملوكهم الحاضرون لذلك خمسة بردويل وصنجيل وكبريري والقمص وإسمند وهو مقدم العساكر فردوا إليه إنطاكية وبلغ الخبر إلى المسلمين فسافروا إليهم شرقا وغربا وسار قوام الدولة كربوقا صاحب الموصل وجمع عساكر الشام وسار إلى دمشق فخرج إليهم دقاق بن تتش وطغتكين أتابك وجناح الدولة صاحب حمص وأرسلان صاحب سنجار وسكمان أرتق وغيرهم من الأمراء وزحفوا إلى إنطاكية فحاصروها ثلاثة عشر يوما ووهن الإفرنج واشتد عليهم الحصار لما جاءهم على غير استعداد وطلبوا الخروج على الأمان فلم يسعفوا ثم اضطرب أمر عساكر المسلمين وأساء كربوقا السيرة فيهم وأزمعوا من استكثاره عليهم فخرج الإفرنج إليهم واستماتوا فتخاذل المسلمون وانهزموا من غير قتال حتى ظنها الإفرنج مكيدة فتقاعدوا عن اتباعهم واستشهد من المسلمين ألوف والله تعالى أعلم. استيلاء الإفرنج على معرة النعمان ثم على بيت المقدس.ولما حصلت للإفرنج هذه النكاية في المسلمين طمعوا في البلدا وساروا إلى معرة النعمان وحاصروها واشتد القتال في أسوارها حتى داخل أهلها الجزع فتحصنوا بالدور وتركوا السور فملكه الإفرنج ودخلوا عليهم فاستباحوها ثلاثا وأقاموا بها أربعين يوما ثم ساروا إلى غزة وحاصروها أربعة أشهر وامتنعت عليهم فصالحهم ابن منقذ عليها وساروا إلى حمص وحاصروها فصالحهم عليها جناح الدولة وساروا إلى عكا فامتنعت عليهم وكان بيت المقدس قد ملكه السلجوقية وصار لتاج الدولة تتش وأقطعه لسكمان بن أرتق من التركمان فلما كانت واقعة الإفرنج بأنطاكية طمع أهل مصر فيهم وسار الأفضل بن بدر الجمال المستولى على العلويين بمصر إلى بيت المقدس وبها سكمان وأبو الغازي إبنا أرتق وابن عمهما سوع وابن أخيهما ياقوتي فحاصروه نيفا وأربعين يوما ونصبوا عليه نيفا وأربعين منجنيقا وملكوه بالأمان سنة إحدى وتسعين وأربعمائة وأحسن الأفضل إلى سكمان وأبي الغازي وأصحابهما وسرحهم إلى دمشق وعبروا الفرات وأقام سكمان بالرها وسار أبو الغازي إلى العراق واستناب الأفضل عليها افتخار الدولة الذي كان بدمشق فقصده الإفرنج بعد أن حاصروا عكا وامتنعت عليهم فحاصروه أربعين ليلة وافترقوا على جوانب البلد فملكوها من الجانب الشمالي آخر شعبان من السنة واستباحوها وأقاموا فيها أسبوعا واعتصم بعض المسلمين بمحراب داود وقاتلوا فيه ثلاثا حتى استأمنوا ولحقوا بعسقلان وأحصى القتلى من الأئمة والعلماء والعباد والزهاد المجاورين بالمسجد فكانوا سبعين ألفا ويزيدون وأخذ من المناور المعلقة عند الصخرة أربعون قنديلا من الفضة كل واحد منها ثلاثة آلاف وستمائة وستون درهما من الفضة زنته أربعون رطلا بالشامي ومائة وخمسون قنديلا من الصغار وما لا يحصى من غير ذلك وجاء الصريخ إلى بغداد صحبة القاضي أبي سعيد الهروي ووصف في الديوان صورة الواقعة فكثر البكاء والأسف ووسم الخليفة بمسير جماعة من الأعيان والعلماء فيهم القاضي أبو محمد الدامغاني وأبو بكر الشاشي وأبو الوفا بن عقيل إلى السلطان بركيارق يستصرخونه للإسلام فساروا إلى حلوان وبلغهم اضطراب الدولة السلجوقية وقتل محمد الملك البارسلان المتحكم في الدولة واختلاف السلاطين فعادوا وتمكن الإفرنج من البلاد وولوا على بيت المقدس كندفري من ملوكهم.
|